قنوات الفساد على يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي

قنوات الفساد على يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي… حين يصبح هدم الأسرة تجارة مربحة أخطر من الإرهاب
تحرير ومتابعة سيداتي بيدا
عضو الاتحاد الدولي للصحافة العربية
في زمن تتعدد فيه التهديدات الأمنية، يظهر نوع جديد من الخطر، أشد فتكًا من الرصاص، وأعمق أثرًا من القنابل. خطر لا يتسلل عبر الحدود، بل يخترق البيوت من الداخل، عبر شاشات الهواتف، على يد فئة لا تحمل لا علمًا ولا ضميرًا، وجدت في اليوتيوب منبرًا لتفريغ عقدها، وتوجيه رصاصات التحريض نحو الأسرة المغربية، عماد المجتمع وسُرّة تماسكه.
لم نعد نتحدث عن حرية التعبير، بل عن تحريض مقنّع على التمرد والانهيار الأخلاقي، يُقدّم في شكل “نصيحة”، بينما هو في حقيقته قنبلة اجتماعية مؤقتة. قنوات تحوّلت إلى منابر للفوضى، حيث تُذبح القيم، وتُهدم المفاهيم، ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي بعيدًا عن كل ما هو عقل، ومسؤولية، وإنسانية.
الظاهرة لم تعد هامشية. آلاف النساء، بل ومراهقون في طور التشكل النفسي والفكري، يتابعون هؤلاء (المؤثرين) يوميًا، ويتلقون منهم جرعات سامة من التحريض ضد الأزواج، ضد الاستقرار، ضد البيت، ضد كل ما يربط الأسرة ببعضها. تُقدّم ربّة البيت كعبئ، وتُصوَّر الأمومة كقيود، ويُختصر الرجل في (غريزة)، ويُختزل الزواج في صراع سلطات.
تُنصح المرأة بأن تهمل بيتها، وتعيش كما تشاء. (دعي منزلك متسخًا، دعي الأطفال، وعيشي حياتك). بل يُطلب منها أن ترى في زوجها مشروعًا تجاريًا: إن لم يُدر دخلًا كافيًا، فتخلصي منه. والنتيجة؟ طلاق، عنف، تشرد أطفال، وانهيار لَبِنات المجتمع الأساسية.
الأدهى من ذلك أن الخطاب يُسوَّق على أنه تمكين، في حين أنه تفكيك مقنّع. تُقدَّم الاستقلالية كحرية من الالتزام، ويُروّج للطلاق على أنه بداية الحياة، لا نهايتها. وكأن العائلة عبء، والتضحية غباء، والاحترام ضعف.
اللغة المستخدمة في هذه القنوات مشحونة بالكراهية. (لا تنظفي له البيت)، (عامليه كأنه لا يساوي شيئًا)، (اعتبري زوجك مشروعًا مدرًا للربح)، (احتقري أمه وأخته)، (خذي أولاده واتركيه)، (افعلي ما تشائين بجسدك)، (أنت لا تحتاجين إلى رجل). أما الرجل، فصُوّر على أنه مجرد كائن شهواني لا عقل له ولا مسؤولية، في تدمير منهجي لصورة الرجل المغربي المعروف برجولته، غيرته، ومسؤوليته التي صنعت له احترامًا في التاريخ.
هذه ليست حرية رأي، بل عملية غسل دماغ جماعي، تُمارس ببرود داخل غرف مغلقة، وتحظى بآلاف المشاهدات والإعلانات، دون رقيب ولا حسيب.
والكارثة أن النتائج على الأرض صادمة: نسب الطلاق ترتفع بشكل مهول، الأسر تتفكك، والمحاكم تغصّ بقضايا الشقاق والنفقة، والأطفال يُرمون في ذ
أكثر من 100 ألف حالة طلاق سنويًا في المغرب، بمعدل يفوق 300 حالة يوميًا. ومع تنامي تأثير هذا المحتوى التخريبي، يزداد الانهيار بصمت، بينما الجهات المسؤولة ما تزال تتعامل مع الظاهرة كأنها تفاهة عابرة، أو مجرد اختيارات شخصية.
لكن هذا ليس ترفًا. هذه حرب ناعمة على استقرار المجتمع. حرب دون دماء، لكن نتائجها مدمّرة. وإذا كان الإرهاب يزرع الرعب لحظيًا، فإن هذا المحتوى يُجهز على أجيال قادمة بالكامل.
من غير المقبول أن يستمر هذا العبث، وأن تتحول المنصات إلى أدوات لهدم المجتمع من الداخل. من غير المقبول أن يُمنح هؤلاء منابر دون شروط، وأن يتاجروا بأوجاع الناس وأحلامهم ومستقبل أطفالهم.
من الناحية القانونية، يعتبر القانون المغربي جرائم التحريض على الفساد، وإشاعة الفتنة، والسب والقذف، وكذلك الاعتداء على النظام الاجتماعي، جرائم يعاقب عليها الفصل 263 من القانون الجنائي الذي ينص على معاقبة «كل من بصفته الخاصة أو عامة، نشر علانية من شأنه أن يهدد السلم الاجتماعي، أو يزرع الفتنة بين المواطنين، بالسجن من سنة إلى خمس سنوات وغرامة مالية». كذلك يُجرم قانون الصحافة والنشر المغربي نشر محتويات تحرض على الكراهية والتمييز أو تخدش الحياء، وهو ما ينطبق على بعض الفيديوهات التي تحط من قدر الرجل أو المرأة، وتدعو للانفصال والتفكك.
فضلاً عن ذلك، تُجرم القوانين المتعلقة بحماية الطفل كل فعل يُؤدي إلى إلحاق الضرر النفسي أو الاجتماعي بالطفل، ما يشمل التشرد الناتج عن التفكك الأسري المُثار بتحريض المحتوى الرقمي. وهناك عقوبات جنائية تُطبق على كل من يشارك أو يسهم في نشر هذه المواد التي تشكل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي.
كما أن قضية انتحال الصفة التي يرتكبها بعض هؤلاء اليوتيوبرز، والتي تتضمن تقليد شخصيات معروفة دون ذكر أسمائهم احترامًا للقراء، تشكل جريمة يعاقب عليها القانون المغربي. ينص الفصل 350 من القانون الجنائي على معاقبة كل من انتحل صفة رسمية أو عامة أو تظاهر بها، لما لهذا الفعل من تأثير سلبي على المجتمع، خاصة عندما يترافق مع إهانة لفئات عريقة في المجتمع المغربي مثل “البشوات” التي تمثل رموزًا اجتماعية وتاريخية محترمة.
إن استمرار هذه الممارسات وانتهاك القوانين دون محاسبة، يشكل تهديدًا مباشرًا للسلم الاجتماعي، ويُفضي إلى مزيد من الانفلات والفساد، ويجعل من الضروري على الجهات المختصة اتخاذ إجراءات صارمة وحاسمة لوضع حد لهذا العبث الذي يمس كرامة المغاربة ومستقبل أسرهم.
اليوم، إما أن نختار الصمت، فنشارك في الجريمة، أو نواجه، ونتحمل مسؤوليتنا كمجتمع، كمؤسسات، وكدولة.
فهل تتحرك السلطات؟
هل يستيقظ الضمير الجماعي؟
وهل نقبل أن تُغتال الأسرة المغربية على يد حفنة من “يوتيوبرز” لا يحملون إلا أحقادهم وميكروفوناتهم؟